رحلة الكويت:
أبقى ناجي على صلاته مع تنظيم حركة القوميين العرب رغم عدم التزامه تنظيمياً في صفوفه. بالإضافة إلى مجلة الحرية التي واظب على الرسم فيها، توجه إلى الكويت للعمل في مجلة الطليعة الأسبوعية التي كانت تتبع فرع التنظيم في الكويت عام 1963. وكان الدافع وراء سفره هذه المرة صعوبة الحياة في لبنان والمضايقات التي فرضتها الحكومة اللبنانية على اللاجئين الفلسطينيين فيما يخص حقوق العمل وممارسة الأنشطة السياسية. كانت دول الخليج ومنها الكويت في حينه بحاجة للأيدي العاملة والفنية، مع حصول معظمها على استقلالها وبدئها بناء مؤسساتها وبناها التحتية، وفي ظل التخمة المالية الآتية من النفط المتدفق في الخليج، كانت هذه الدول بحاجة إلى العمالة ففتحت أبوابها للفلسطينيين للعمل رغم توجسها، وخشيتها من هؤلاء المتقدين بالثورة والغضب على الدول العربية المتهمة بإضاعة وطنهم. دول الخليج أرادت منهم عمالاً يبنون ويتقاضون رواتب جيده تعوضهم عن سنين حرمان ما بعد النكبة وتعين عوائلهم المقيمة في المنافي على مواجهة متطلبات الحياة، ولكنها كانت في الوقت ذاته تخشى الفلسطيني المتسلح بوعي قومي حتى لا تنتقل الحمى التي يحملها إلى شعوبها التي فارقت البداوة حديثاً.
فور وصوله الكويت، انخرط ناجي في العمل الصحفي داخل مجلة الطليعة التي وجد فيها ضالته المنشودة، والتي من خلالها عبر عما يجول في باله. استطاع خلال عمله أن يلامس هموم المواطن العربي اليومية، لكن دافعيته للعطاء دفعته للبحث عن بديل يومي يستوعب طاقته. انتقل إلى جريدة السياسة الكويتية اليومية رغم أن خط الجريدة السياسي غير منسجم مع تفكيره، فاشترط ألا يتدخل أحد في عمله الذي استمر فيه حتى عام 1974. خلال هذه الفترة التي تعد الأهم في حياته كفنان كاريكاتيري، أرخت الكثير من الأحداث المتعلقة بالقضية الفلسطينية أو بالعالم العربي بظلالها عليه ودفعته للاقتراب منها أكثر فأكثر استجابة لتوقعات قرائه. في الكويت أزعج ناجي بريشته ملاك الثروة والإعلام والسياسة، وهو ما سنتطرق إليه في فصل لاحق. انتقد أمراض المجتمع والفساد الإداري والمالي، كما انتقد عدم أهلية الحكام، "لذلك ليس صدفة أن تكون أولى رسوماته في الكويت عبارة عن لص يدخل بلدية الكويت، ويخرج صائحاً سرقوني" [10].
أنشئت منظمة التحرير الفلسطينية عام 1964، وبعد أشهر انطلقت المقاومة الفلسطينية المعاصرة وعلى رأسها حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح). أدرك ناجي هنا أن ولادة المنظمة ليس إلا صك براءة لذمة الأنظمة العربية كي تتخلى عن مسؤولياتها تجاه ضياع فلسطين. أثناء عمله في الكويت أيضاً، حدثت هزيمة الأنظمة العربية الثانية عام 1967 التي اصطلح على تسميتها لاحقاً بالنكسة، وكان لها الأثر البالغ في إبداعاته الكاريكاتيرية التي عبر عنها بألم وحزن ونقد. خشي ناجي في الكويت على نفسه من الانزلاق في ترف ومتعة الحياة وتدفق المال والابتعاد عن قضيته الوطنية والقومية.
تزوج ناجي عام 1964 من وداد نصر حيث سافر إلى صيدا وعقد قرانه عليها ثم عاد إلى الكويت التي كانت تعيش قلاقل سياسية بين الأسرة الحاكمة والمعارضة. جاء الإعلان عن تنفيذ العاصفة الجناح المسلح لحركة فتح أول عملية عسكرية لها ضد الاحتلال "الإسرائيلي" ليدفع ناجي للرسم بريشته صورة كاريكاتيرية لمقاومة امرأة فلسطينية لجندي صهيوني يحاول اغتصابها وهي تصده. في معركة الكرامة عام 1968 كان أيضاً ناجي حاضراً.
وفي 11/ 12/ 1967م ولد تنظيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من رحم حركة القوميين العرب والذي سرعان ما تشقق إلى ثلاث فصائل هي الجبهة الشعبية القيادة العامة بزعامة أحمد جبريل، والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بزعامة نايف حواتمة، وبقي الكم الأكبر من أتباع التنظيم تحت قيادة جورج حبش. حزن ناجي العلي على هذا الأمر إلا أنه بقي منحازاً للجبهة الشعبية بقيادة حبش وفق ما يؤكد شاكر النابلسي في كتابه أكله الذئب، "أنا لست حزبياً لأحشر القارئ وأدفعه لتبني موقفي السياسي والأيديولوجي. فالمعركة واضحة جداً" "أنا منطقة محررة ليست مجيرة لأي مؤسسة أو نظام... أنا متهم بالانحياز.. وهي تهمة لا أنفيها. أنا لست محايداً. أنا منحاز لمن هم (تحت).. لمن هم ضحايا الأكاذيب وأطنان التضليلات وصنوف القهر والنهب وأحجار السجون والمعتقلات. أنا منحاز لمن ينامون في مصر بين القبور ولمن يخرجون من حواري الخرطوم ليمزقوا بأيديهم سلاسلهم. أنا منحاز للذين يقضون في لبنان ليلهم في شحذ السلاح الذي سيستخرجون به شمس الصباح القادم من مخبئها. وأخيراً أنا منحاز لمن يقرؤون كتاب الوطن في المخيمات" [11].
انشد ناجي حتى العام 1974 ليس فقط للهموم الفلسطينية بل والعالمية، فحيا الثورة الفيتنامية في رسوماته وانتقد الدعم الأمريكي (لإسرائيل) والعلاقات الإيرانية في عهد الشاه مع "تل أبيب". دافع عن الحرية والديمقراطية في الوطن العربي وعن الثورة الجزائرية والتعايش الإسلامي المسيحي العربي متأثراً بذلك من مصغره كابن لقرية مختلطة بين المسلمين والمسيحيين ومن ثم بالإمام موسى الصدر في المدرسة الجعفرية التي علم وعمل فيها لاحقاً.
كانت رسومات ناجي العلي قبل عام 1969 وخطوطه تأخذ عدة أشكال ذات دلالات رمزية واضحة ترتبط بما يريده هو شخصياً، لكن في هذا العام أوجد رمزه الخاص الذي لازمه حتى وفاته والمعروف باسم حنظلة، والذي قدمه لجمهوره بشرح وافٍ على صفحات جريدة السياسة بتاريخ 13/ 08/ 1969. في تقديمه للقارئ، لخص ناجي همومه كمواطن عربي ووجد في ولده كما كان يحب أن يسميه إلهامه. بدأ ناجي في جريدة السياسة يشعر بأنه محاصر وأن هامش الحرية الذي كان يمرح فيه داخل الطليعة الذي كان يتمتع به أثناء عمله فيها قبل انتقاله إلى جريدة السياسة بات ضيقاً، وكان يقدم العديد من الرسومات يومياً للإدارة حتى تجيز له إحداها، فركز فنه في هذه الفترة على القضية الفلسطينية، وواكب أحداث أيلول وخطف الطائرات، ورحيل الرئيس جمال عبد الناصر، وكان لاغتيال الأديب غسان كنفاني في بيروت وقع الصدمة على ناجي فأدرك أن الموت بات يقترب منه أكثر.
شحذ ناجي ريشته مجدداً مع بدء ملامح عمليات التسوية السياسية بالظهور معلناً رفضه لكل حل لا يرجع فلسطين للفلسطينيين، وأشبع هنري كيسنجر سخرية برسوماته. عاد ناجي إلى بيروت عام 1974 بعدما طلب منه طلال سلمان العودة للعمل معه في جريدة السفير. فوجئ ناجي بتبدل الأحوال في المخيمات فلم تعد كما تركها سابقاً، "فقد شعرت أن مخيم عين الحلوة كان أكثر ثورية قبل الثورة، كانت تتوفر له رؤية أوضح سياسياً. يعرف بالتحديد مَن عدوه وصديقه. كان هدفه محدداً فلسطين، كامل التراب الفلسطيني. لما عدت، كان المخيم غابة سلاح، صحيح، ولكنه يفتقد إلى الوضوح السياسي، وجدته أصبح قبائل، وجدت الأنظمة غزته، وعرب النفط غزوه ودولارات النفط لوثت بعض شبابه.... صحيح هناك تفاوت بين الخيانة والتقصير، ولكنّي لا أعفي أحداً من المسؤولية. الأنظمة العربية جنت علينا، وكذلك الثورة الفلسطينية نفسها" [12].
ناجي من حرب المخيمات إلى خروج الثورة الفلسطينية من بيروت:
عايش ناجي العلي بعد عودته من الكويت إلى بيروت الحالة غير المستقرة للوضع السياسي والأمني في لبنان وفي الوطن العربي بعد حرب عام 1973 وما تبعها من قسمة حادة في الحالة العربية. هنا لا يحاول الباحث الخوض في أسباب الحرب الأهلية التي شهدها لبنان منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي ولكنه يرصد مواقف وسيرة حياة ناجي في خضم الاقتتال العنيف الذي كانت تشهده الأراضي اللبنانية والمعسكرات التي أفرزتها تلك الحرب.
آثر ناجي العلي البقاء في لبنان متنقلاً بين مخيم عين الحلوة وصيدا وصور والجنوب على ترك بلد يحرقه لهيب القنابل وتعمل فيه آلة الطائفية تقتيلاً وتمزيقاً رغم توافر الظروف له للعودة مع أسرته إلى الخليج للعمل هناك. هاجم ناجي الحرب الأهلية منذ بدايتها ورأى فيها حرباً بالإنابة عن آخرين بغية تصفية عروبة لبنان والمقاومة الفلسطينية. انبرى ناجي بريشته للدعوة للوحدة بين المسيحيين والمسلمين في مواجهة القوى المتحالفة مع (إسرائيل) على الساحة اللبنانية، اقترب الخطر منه أكثر بتعرض منزله للقصف عام 1981 دون أن يردعه ذلك عن التوقف "ففي عام 1981 جراء القصف الذي تعرضت له صيدا من قبل جماعة سعد حداد [مؤسس جيش لبنان الجنوبي المرتبط بإسرائيل]، أصيبت ابنة ناجي "جودي" في قدمها، مما استدعى نقلها إلى المستشفى لإجراء عملية جراحية، والتي ما زالت تعاني من نتائجها حتى اليوم" [13].
انتقد ناجي القوى الفلسطينية وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية، كما انتقد أعداءها دون خوف أو وجل مما أكسبه عداء جميع الفرقاء على الساحة اللبنانية ومن يقف وراءهم رافضاً كل التهديدات مؤمناً بما يمليه عليه عقله وتترجمه ريشته إلى فن ناقد ولاذع عبر جريدة السفير التي طور من خلالها فنه وأداءه. بقي مصراً على رفضه في هذه الفترة التي امتدت حتى الاجتياح "الإسرائيلي" للبنان عام 1982 لكل محاولات سلخ القضية الفلسطينية عن عمقها العربي القومي، "فهو يصر على قومية المعركة، وعلى تركيز الرؤية على الخط الفاصل بين العمل الوطني الفلسطيني والعمل القومي العربي والعمل النضالي الأممي، ويؤكد على خصوصية الأول. بمعنى تكليف الفلسطيني بأعباء نضالية أكبر حجماً، وهو في السياق ذاته يؤكد على أن ذلك الخط ما هو إلا جزء لا يتجزأ من النضال القومي والأممي ذاته، ولا ينفصل أو ينفصم عنه بحال من الأحوال" [14].
تعرض ناجي بفنه في هذه الفترة إلى ظهور النفط والصراع الأمريكي السوفييتي على تقاسم النفوذ في العالم العربي، رفع ناجي من مستوى فنه لتوظيف النظرة المسيحية الوطنية تجاه القضية الفلسطينية خلال الحرب الأهلية، فمزج آلام المسيح الفلسطيني بالرموز المسيحية الأخرى. تعاطى برسوماته مع غياب الديمقراطية داخل المقاومة الفلسطينية وفي العالم العربي.