في قاعات فندق بيت لحم كان الجميع يبحث عن رفيق دلال المغربي، خالد أبو إصبع، الذي عاد بعد 20 عاما إلى فلسطين، يحمل هذه المرة حقيبة سفر، ليشارك في مؤتمر فتح السادس، بعدما دخل أول مرة إلى وطنه، يحمل حقيبته العسكرية، لينفذ عملية الساحل الشهيرة، مع رفاقه الـ13، والتي قتل فيها 37 إسرائيليا، و11 فدائيا ينتمون لفتح.
أينما ذهب «الشهيد الحي»، كما يحلو لرفاقه أن يلقبوه، التقاه عائدون من فتح، يعانقونه، يذكرونه بأيام قضوها معا في أحد البلدان العربية، أما أبناء الحركة من الداخل الذين لم يلتقوه يوما، فكانوا يسألون عنه، يهنئونه بالسلامة، جاءه أعضاء مجلس تشريعي، ومنتخبون في الأقاليم، ومطاردون من كتائب الأقصى، وعناصر في الأجهزة الأمنية، كلهم أخبروه بأنه يمثل تاريخ وحاضر ومستقبل وشرف فتح.
أمضى أبو إصبع، مع فنجان قهوة في صحبة «الشرق الأوسط» ساعتين، وكان لا بد للحوار معه أن يتوقف عدة مرات، لقد كان بحق «نجم المؤتمر»، على الرغم من وجود أسماء أكثر شهرة ونفوذا في الحركة. وحتى الإعلام الإسرائيلي كان يبحث عن أبو إصبع، أكثر مما كان يبحث عن رموز، تهوى بدورها الحديث إلى وسائل الإعلام.
وفي جلسة الحكومة الإسرائيلية الأحد الماضي، ثارت ثائرة وزراء إسرائيليين على السماح «لقتلة» بدخول الضفة الغربية. وكتبت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية، أن إسرائيل بينما منعت بعض «إرهابيي» فتح من دخول الضفة، «سمحت لإرهابي عملية الساحل بالدخول».
ومن جهته، كتب موقع قضايا مركزية الإسرائيلي، تحت عنوان كبير، أن «نتنياهو يسمح بدخول المئات من عناصر فتح إلى الضفة، من بينهم قتلة مثل خالد أبو إصبع أحد منفذي عملية الساحل الشهيرة». ونشر الموقع صورة كبيرة لأبو إصبع وهو يبتسم، وكُتب أسفلها «أبو إصبع مبسوط في بيت لحم».
لأما صحيفة «يديعوت أحرونوت»، كبرى الصحف الإسرائيلية انتشارا، فأرسلت أحد أهم صحافييها للقاء أبو إصبع، ونشرت حوارا معه، ركزت فيه على أن أبو إصبع يرفض الاعتذار لقتلى عملية الساحل. وقال أبو إصبع للصحيفة الإسرائيلية «أنا لست نادما ولست آسفا، ولا أجد ضرورة لطلب الصفح من أبناء عائلات القتلى». وأضاف «إذا اعتذرت إسرائيل للشعب الفلسطيني عن كل شخص قتلته أو مذبحة نفذتها ضد أبناء شعبنا سنكون جاهزين لدراسة مبادرة مماثلة».
وحين سأله الصحافي روني شكيد «حتى لا يوجد اعتذار؟» رد يقول «ومن سيعتذر لأعضاء الخلية الذين قتلوا؟ لماذا عليّ الاعتذار للإسرائيليين؟ إذا أرادت عائلات القتلى اعتذارا أو طلبا للصفح فعليها التوجه لإيهود باراك وللجيش الإسرائيلي (اتهم الجيش بأنه هو الذي قتل الإسرائيليين). وتابع «قبل خروجنا للعملية شدد أبو جهاد (خليل الوزير الرجل الثاني في فتح) على عدم قتل الرهائن وأن الهدف إطلاق سراح الأسرى».
ولد أبو إصبع في الكويت عام 1960، وفي عام 1975 التحق أبو إصبع بحركة فتح، وفي عام 1978 نفذ عملية الساحل، أي أن عمره كان آنذاك 18 عاما.
وفي عام 1977 كان أبو إصبع يتدرب في مجموعة معروفة باسم الخدمة الخاصة، وهي تتبع القطاع الغربي الذي كان يقوده آنذاك (العقل العسكري في فتح) خليل الوزير، (أبو جهاد)، والذي اغتالته إسرائيل في 16 أبريل (نيسان) 1988، في بيته في تونس، في عملية خاصة وكبيرة. يقول أبو إصبع إنه لم يشعر برهبة في حياته كما شعر بها عندما التقى أبو جهاد في المرة الأولى عام 1977، وأضاف «الغريب في هذا الرجل أنك كلما التقيت به تشعر بذات الرهبة». ويتذكر أبو إصبع «لقد كان قائدا فوق العادة، قليل الكلام، وعميقا جدا».
زار أبو جهاد الخدمة الخاصة، وأخبر المجموعة بأن أمامهم عملا، من دون أن يعطي مزيدا من التفاصيل، وقال لهم إن من يريد المشاركة عليه أن يخضع لمزيد من التدريبات القتالية وتدريبات أخرى في البحر.
كانت الخطة أن تنفذ مجموعة أبو إصبع ومجموعة أخرى فيها دلال المغربي، عمليتين في الوقت ذاته في إسرائيل، لكن الخطة تغيرت لاحقا، لينضما معا في عملية واحدة، عرفت فيما بعد بعملية الساحل، أو «عملية الشهيد كمال عدوان» (أحد قياديي فتح الذين اغتالتهم إسرائيل في لبنان عام 1973).
في معسكر القاسمية في لبنان تعرف أبو إصبع على دلال، كان من معارضي أن تشارك في العملية، وقال آنذاك «ما ظل زلام في فتح»، فردوا عليه أن هذه أوامر أبو جهاد.
تعطلت عمليتهم مرتين، مرة بسبب أن الباخرة ضلت طريقها، ومرة بسبب أن محركها احترق، وفي المرة الثالثة، غير أبو جهاد الخطة وأخبرهم بتفاصيل نهائية لم يكونوا اطلعوا عليها في المرتين السابقتين.
في الرابعة من فجر الثامن من شهر مارس (آذار) من عام 1987، وصلت سيارات عسكرية إلى مواقع الفدائيين الـ13 الذي سيشاركون في العملية، بعدما استثنى أبو جهاد فدائيا، عرف أنه يدرس الطب، فطلب منه إنهاء دراسته، والتفرغ لخدمة شعبه.
أخبرهم أبو جهاد بأن إسرائيل تحضر لعميلة على الجنوب، وأنه يريد لعملية السحل ألا تكون مثل إبرة تسبب وخزة في جسد الفيل، بل مثل مسلة تغضبه إلى الحد الذي يكشف فيه عن كل ما لديه من قوة.
وبحسب أبو إصبع، فإن للعملية أهدافا أخرى، ومن بينها إرسال رسالة إلى الجميع، بأن للفلسطينيين قيادة تتكلم باسمهم، أما الهدف الرئيسي فهو الإفراج عن معتقلين من الفصائل الفلسطينية وعلى رأسها فتح.
أعطيت الأوامر للفدائيين بأخذ رهائن إسرائيليين والمفاوضة عليهم، وأبلغوا بأنهم إذا ما اعتقلوا فإن عليهم ألا يتطرقوا أبدا إلى أن باخرة أجنبية هي التي أقلتهم قبل أن ينتقلوا إلى زورقين وصلا بهم إلى شواطئ تل أبيب.
كانت الباخرة قد انطلقت من ميناء صور إلى مصر، ثم عادت إلى لبنان قبل أن تذهب إلى إسرائيل. ضل الفدائيون الطريق، أو أنه خيل إليهم ذلك، وعلى مدار يومين ظلوا في البحر، قبل أن يصلوا إلى اليابسة، كانوا منهكين، أما دلال فكانت تبكي رفيقين سقطا في البحر غرقا بفعل موج عال.
صرخت دلال بأنهم فعلا وصلوا فلسطين، وكانت لافتات باللغة العبرية هي دليلها على ذلك، أوقفوا سيارة فيها فتاة اتضح فيما بعد أنها أميركية، سألتها دلال عدة أسئلة ثم أطلقت عليها النار، وغضب أبو إصبع لأنه تم استخدام الكلاشينكوف، بدل كاتم الصوت، وهو ما أحدث ضجة في المكان.
اخذ الفدائيون الذين يلبسون لباسا مدنيا يحاولون إيقاف بعض السيارات عن طريق الإشارة، كانوا يخططون لأخذ سيارة تنقلهم إلى تل أبيب، قال أبو إصبع إنه ورفيقه يحيى سكاف طلبا من سيارة عسكرية إسرائيلية أن تتوقف، لكن الجنود ردوا عليهم بالتحية، ولم يتوقف أحد. (في إسرائيل لا تقف سيارات الأجرة والباصات إلا في مواقف محددة).
بعد قليل أطلت حافلة إسرائيلية، وأخذ أبو إصبع يكمل روايته «فخرج أبو الرمز (أحد الفدائيين) الذي كان مختبئا وراء جدار، وضرب الباص (بالرصاص) اللي كان رايح من تل أبيب باتجاه حيفا، وقف الباص على بعد 150 مترا عنا، وقف أبو الرمز بين الشارعين، وبلش يضرب بالسيارات اللي رايحة واللي جاية».
بعد قليل أوقف أبو الرمز سيارة مرسيدس 7 ركاب، وترك سائقها وركابها يهربون، استقل الفدائيون السيارة، وذهبوا نحو الباص.
كان سائق الباص مرتبكا، ثم تطوع يهودي لقيادة الباص، طلبوا منه أن يذهب باتجاه تل أبيب، وفعلا انطلقت الحافلة نحو تل أبيب، وأخذ الفدائيون الـ11 يطلقون النار على كل السيارات في الطريق.
أوقفوا باصا آخر، واحتجزوا جميع الرهائن الذين أصبح عددهم 90 في باص واحد. كان من بين الركاب جندي إسرائيلي، وقال أبو إصبع، «أخذت منه البيريه الأحمر، وهو يشير لي بيديه ويرتجف بأن عمره 16 عاما» وقال رفيقه حسين فياض إنهم سيهدون البيريه لياسر عرفات. بدأ الإسرائيليون في ملاحقة الباص وسط إطلاق نار كثيف، فرد أبو إصبع ورفاقه بإطلاق النار، واستمرت الاشتباكات طوال الطريق، حتى وصل الباص إلى مدخل تل أبيب.
لا يمل أبو إصبع من تكرار التفاصيل، ويشعر بفخر لا مثيل له وهو يرويها، وكأنه يعيش «الزمن الجميل». أخذ يهزأ من محاولات الإسرائيليين إيقاف الباص، وقال «عند تقاطع نتانيا الخضيرة جابوا باصين ووضعوهما في الطريق عشان يسكروا الشارع اللي إحنا ماشيين فيه، الشوفير اليهودي اللي كان يسوق، هدأ السرعة وعمل wrong side، (أخذ يضحك)، والله فكرناه بيشتغل معنا».
رفعت دلال علم فلسطين على مقدمة الباص، كانت تلك لحظة لم ينسها أبو إصبع، وعند مدخل تل أبيب قرر الإسرائيليون أنه لا يمكن أن يدخل الفدائيون إلى المدينة.
استخدم الجيش الإسرائيلي كل الطرق لاقتحام الحافلة، وأخذ يطلق قذائفه باتجاه الباص، فجر الإسرائيليون مقدمة الباص، وكان بعض الفدائيين قد قضوا.
.